الخطابة

عدل

والخطب ضروب وأنواع؛ فمنها: الخطب السياسية، ومنها: الخطب الحربية، ومنها: الخطب الاجتماعية، ومنها الخطب العلمية...، وهناك خُطب الملوك والرؤساء والوزراء ونوَّاب الشعب، وهناك خطب القادة العسكريين في جنودهم، وهناك خطب الزواج والتأبين، والصلح والتهنئة، وهناك خطب استقبال الطلاب في أول عهدهم بمعاهدهم، وخطب توديع المتخرجين منها، وهناك خطبة الصباح في المدرسة، والبشر لا يستطيعون الاستغناء عن الخطابة، فهي مظهر من مظاهر التواصل: تواصل المشاهدة والسماع، وتواصل الآراء على السواء، ومن طبيعة البشر أن يحاول كل منهم استمالة الآخرين إلى رأيه وموقفه، والخطابة إحدى الوسائل التي يُمكن أن تتمَّ بها تلك الاستمالة؛ ولهذا السبب نجد أنه لا يخلو مجتمع من المجتمعات من ذلك الفن، وإن كان - ككل شيء في الحياة - يمر بفترات ازدهار وفترات ركود؛ طبقًا للظروف التي تحيط بالجماعة البشرية، فإذا كانت هناك حرية رأي وتجمُّع، ووعي ثقافي وسياسي، ازدهرت الخطابة، بخلاف ما لو ساد الاستبداد ولم يكن الشعب واعيًا بحقوقه ولا مهتمًا بترقية أحواله، فإنها تَركُد حينئذ. ••••

وقد عرَف العرب الخطابة كما عرفها باقي الشعوب، واجتازت خطابتها فترات قوة وفترات ضَعف، وكان للجاهليين خطباؤهم كما كان لكل عصر من عصور حضارتهم خطباؤه، ويتناول الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين" - ضمن ما يتناول - الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي، مبينًا أنهم كانوا بارعين في هذا الميدان براعةً منقطعة النظير، حتى إنهم لم يكونوا عادةً بحاجة إلى الاستعداد المُسبق لمواجهة الجموع، بل كان الكلام في مثل تلك المواقف يَنثال عليهم انثيالاً؛ إذ كانت قرائحهم خَصبة ممتازة، وتفوُّقهم في ميدان الأحاديث العامة معروفًا لا يحتاج إلى برهان، وبخاصة أنهم كانوا يُدربون أبناءهم عليها منذ وقت مبكرٍ، وكانت لهم خُطب في الحرب، وفي المنافرة، وفي الصلح، وفي الزواج، وفي الوعظ، وفي حضرة الملوك، بيد أن من الباحثين العرب المحدثين مَن يرى أنهم كانوا يعدون خُطبهم، ويهيئون أنفسهم لإلقائها مسبقًا، فهذه طبيعة الإبداع الأدبي؛ كما يقول د. "إحسان النص" في كتابه: "الخطابة العربية في عصرها الذهبي"، وهو ما قد تَميل النفس إليه في خُطبهم التي كان يُحلِّيها السجع؛ مما يصعب تصوُّر انثياله على لسان الخطيب ارتجالاً، كذلك كانت لهم تقاليد مشهورة في إلقاء الخطب يحرصون عليها أشدَّ الحرص، منها لُبْس العمائم، واتخاذ المخصرة؛ أي: العصا، وفي كتاب الجاحظ المذكور آنفًا نماذج من الخطب التي ترَكها لنا الجاهليون، ومعها أسماء عددٍ ممن اشتَهروا بالتفوُّق في ذلك الباب، وهذا كله يُبرهن أقوى برهانٍ على أن العرب في ذلك العصر، كانت لهم خطبهم وأحاديثهم، وأن هذه الخطب والأحاديث لم تَضِع رغم أنهم كانوا أُمة أُمية بوجه عام؛ إذ كانت حافظتهم لاقطةً شديدة الحساسية، كما أن اعتزازهم بكلامهم وتقاليدهم، قد ضاعَف من اهتمامهم بحفْظ نصوص خُطبهم المشهورة.

وبالمثل يؤكد جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللغة العربية" أن العرب في ذلك العصر كانوا خطباءَ مصاقعَ؛ نظرًا إلى طبيعتهم النفسية وأوضاع حياتهم السياسية والاجتماعية؛ إذ كانوا ذوي نفوس حسَّاسة أبيَّة، تعشَق الاستقلال، وتَبغض العبودية أشدَّ البُغض، كما كَثُر فيهم الفرسان آنذاك.

والخطابة - حسبما يقول - تناسب عصور الفروسية؛ حيث تغلب الحماسة على النفوس وتكون للكلمة البليغة المُتلهبة مكانة عظيمة عالية، فضلاً عن أنهم كثيرًا ما كانوا يتنافرون ويتفاخرون بالأحساب والأنساب بالمناظرات والخطب، إلى جانب وفودهم في المناسبات المختلفة على الملوك؛ مما كان يَستلزم قيام الخطباء للحديث في تلك الظروف، وهم في العادة شيوخ القبائل ورؤساء الناس، كما ذكر أيضًا أنهم كانوا يُدربون فِتيانهم على إتقان هذا الفن منذ حداثتهم، وأنهم كانوا يحفظون خطبهم ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، ومن هنا كانت عنايتهم الشديدة بها وبصياغتها، و"كان مفروضًا في الخطيب الجاهلي أن يعرف القبائل والأنساب والوقائع والتاريخ؛ حتى تَجتمع له من ذلك مادة الخطبة؛ حين يُنافر أو يُفاخر، أو يُهادن أو يُحرِّض قومه على قتال، أو يدافع عن أحساب قومه"؛ حسبما يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن في كتابه: "الخطب والمواعظ".

هذا ما يقوله ثلاثة من كبار مؤرخي الأدب العربي قديمًا وحديثًا.

مصادر ومراجع

عدل
ويكيبيديا تحتوي على مقالة عن: