قالب:الفكر الاسلامي/العرض
جاءتْ مادَّة "فكر" في "لسان العرب" بمعنى إعْمال الخاطر في الشَّيء[1]، وفي "المعجم الوسيط"[2]: الفِكرُ مقلوبٌ عن الفرك، لكن يستعمل الفِكرُ في الأمور المعنويَّة، وهو فركُ الأمور وبحثُها للوصول إلى حقيقتها.
وجاء عند ابن فارس: "فكََرَ؛ الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر، إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر"[3].
وقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في نحو عشْرين موضعًا[4]، ولكنَّها بصيغة الفعل، ولم ترد بصيغة الاسم أو المصدر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ [المدثر: 18]، وقال تعالى: ﴿ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]، وقال تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
أمَّا من الناحية الاصطِلاحيَّة، فكما ورد عند ابن منظور: "إعمال الخاطر في الشيء"، فقد ورد عند الرَّاغب الأصفهاني بأنَّه: "قوَّة مطرقة للعلم إلى معلوم، وجوَلان تلك القوَّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يمكن أن يُقال إلاَّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلْب"[5].
أمَّا عند المتأخرين، فقد جاء في "المعجم الوسيط" "فكر" بمعنى: إعمال العقل في الشَّيء، وترتيب ما يعلم ليصل به إلى مجهول"[6]، أو: "إعمال العقل في المعْلوم للوصول إلى معرفة مجهول"[7]، كما عرَّفه طه جابر العلواني بأنَّه: "اسم لعمليَّة تردّد القُوى العاقلة المفكّرة في الإنسان، سواء أكان قلبًا أو روحًا أو ذهنًا، بالنَّظر والتدبُّر لطلب المعاني المجْهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحْكام، أو النسب بين الأشياء"[8].
2- مفهوم الفكر الإسلامي: وكما تعدَّدت تعريفات الفكر لغةً واصطِلاحًا، فإنَّ الفِكْر الإسلامي هو الآخر عرف تعريفات عدَّة، نذكر من بينها: الفكر الإسلامي يعني: "كلّ ما أنتجه فِكْر المسلمين منذ مبعث الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى اليوم في المعارف الكونيَّة المتصلة بالله - سبحانه وتعالى - والعالم والإنسان، والَّذي يعبّر عن اجتهادات العقْل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامَّة في إطار المبادئ الإسلاميَّة، عقيدة وشريعة وسلوكًا"[9] الفكر الإسلامي يعني: "كلّ ما ألَّفه علماء المسلمين في شتَّى العلوم الشَّرعيَّة وغير الشَّرعيَّة، بغضِّ النَّظر عن الحكم على مدى ارتِباط هذا النِّتاج الفكْري بأصل العقيدة الإسلاميَّة"[10]. الفكر الإسلامي يعني: "نتاج الفكْر الَّذي تصدَّى للفلْسفات والنَّظريَّات الغربيَّة، ناقدًا لها وواضعًا البديل الإسلامي محلَّها"[11]. الفكر الإسلامي يعني: "كلّ نتاج للعقْل البشري الموافق لمنهج الإسلام"[12]. الفكر الإسلامي يعني: "كلّ ما هو غير تجريبي من مقوّمات الحضارة الإسلاميَّة"[13]. الفكر الإسلامي يعني: "الحكم على الواقع من وجهة نظر الإسلام"[14]. الفكر الإسلامي يعني: "المنهج الَّذي يفكِّر به المسلمون أو الَّذي ينبغي أن يفكِّروا به"[15].
بالنَّظر لهذه التَّعريفات وما سبقها من تعريفات للفكْر مجرَّدًا عن الوصف أو الإضافة، يلْحظ الآتي: 1- أنَّ الفكر إمَّا أن يراد به الكيفيَّة التي يدرك بها الإنسان حقائق الأمور التي أعمل فيها عقله، فيكون الفكر عندئذٍ بمثابة الأداة أو الآليَّة في عمليَّة التَّفكير، وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقليَّة ونفسيَّة.
وإمَّا أن يراد به ما نتج عن ذلك من تصوُّرات وأحكام ورؤًى حول القضايا المطروحة، ثمَّ تتَّسع دائرة مفهوم الفِكْر أو تضيق تبعًا لمنطلقات المحدّد لمفهوم الفكر، فإذا اتَّسع مفهوم الفكْر اشتمل على الموْروث الفكْري للإنسان في جَميع ميادين المعْرِفة والعلوم على الصَّعيد النَّظري، على أنَّ هناك مَن يدخل العلوم التَّجريبيَّة والتَّطبيقيَّة داخل مفهوم الفكر، فيشتمل على النَّشاط الإنساني بعامَّة بما يخرج مفهوم الفكْر عن الفكْر ليشْتمل على مفهوم الثَّقافة بل الحضارة أيضًا.
وقد تضيق دائرة مفهوم الفكر حتَّى تنحصِر في مجرَّد النَّظر العقلي في أمرٍ ما، فيكون الفكْر عندئذٍ منسوبًا إلى مبدأ، أو مذهب، أو طائفة، أو أمَّة، أو عصر، أودين.
2- عندما يضاف الفكر إلى الإسلام أو يوصف الفكر بأنَّه إسلامي، فإنَّ المفهوم يتأثَّر كذلك بالمنطلقات المشار إليها سابقًا، فإمَّا أن يراد به كيفية عمل العقل وما يلحق به من القوى المدْركة لدى الإنسان في ضوء الإسلام؛ ولذلك عرَّفه بعضهم بأنَّه: "المنهج الَّذي يفكِّر به المسلمون أو الَّذي ينبغي أن يفكِّروا به"[16].
وقد لحظ صاحب هذا التَّعريف أنَّ هذا المعنى الكيْفي للفكر المتمثّل في حركة الذّهن للانتقال من المعلوم إلى المجهول، ونحو ذلك من التعبيرات المختلفة التي تؤدّي المعنى نفسه - هو ما استخدمه الأقدمون مثل: (ابن سينا) و (الرازي) و (ابن خلدون)، ولخَّصها (الجرجاني) في تعريفاته بقوله: "الفكر ترْتيب أمور معلومة لتؤدِّي إلى مجهول".
وهذا التَّعريف يربط بين الفكْر والمنهج، ويلزم معه الإلمام بمدْلول المنهج في اللُّغة ثمَّ كمصطلح.
3- وإمَّا أن يراد بالفكْر الإسلامي ما أنْتجه الفكْر في ضوْء الإسلام، ثمَّ تَختلف المنطلقات والغايات حول تَحديد الفكْر الإسلامي، فبعضهم يُطلق مسمَّى الفكر الإسلامي ويُريد به كلَّ ما أنتجه فكْر علماء الأمَّة وباحثيها في ضوْء مبادئ الإسلام وأحْكامه وضوابطِه، ولا يدَّعي العصمة لهذا الفكر، ولا يدخل فيه الوحي (الكتاب والسنة)؛ وإنَّما يدخل فيه ما خرج عنهما أو انبثق منهما.
وبالجملة، فهو يفرِّق بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي، ويَحترز من الخلط بيْنهما، ولكن يؤخذ على هذا التَّعريف أنَّه ربَّما أدخل بعض المذاهب المنحرفة أو التَّفسيرات الخاطئة لبعض عقائد الإسلام وشرائعه.
وهناك بعض التَّعريفات التي تتَّفق مع هذا التَّعريف في السَّعة والشّمول لكلّ ما أنتجه الفِكْر المنسوب للإسلام، ويكفي فيه أن ينتسب أصحابُه للإسلام، وهذا التَّعريف لا يتقيَّد بما تقيد به التَّعريف السَّابق من كوْن الفِكْر لا يحسب على الإسلام إلاَّ إذا وافق عقيدة الإسْلام وشريعته وهدْيه، ولا شكَّ أنَّ هذا التَّعريف قريب من تعريفات بعض المسْتشْرقين الَّذين يدخلون في الفكر الإسلامي الفلسفات الدَّخيلة والعقائد الفاسدة، لكنَّه لم ينصَّ على الوحي الإلهي؛ بل يظهر منه استِثناء الوحي الإلهي من مسمَّى الفكر.
4- ينفرد بعض التَّعريفات بالنَّظر إلى نتاج العقل نظرة موضوعيَّة بغضّ النَّظر عن المفكّر، فما وافق الإسلام من تراث الفكر الإسلامي أو أنتجه فكر المسلمين في ضوء الإسلام، فإنَّه يسمَّى فكرًا إسلاميًّا.
وبعد، فإنَّه يمكن أن يعرف الفكر الإسلامي في ضوء الخصائص الآتية: الجمع بين عمل الفِكْر كأداة (منهج)، وبين ما ينتجه الفكر من ثمرة للتَّفكير. أن ينصبَّ الفكر الإسلامي على النَّاحية التنظيريَّة التَّصوُّريَّة دون العمليَّة السلوكيَّة. أن يعرف الفكر الإسلامي بأنَّه فكرٌ موجَّه، أو بعبارة أنسب ملتزم بتعاليم الإسلام، فلا يتوافر الفِكْر في ظلِّ الإسلام على الخوضِ فيما نهى عنْه الشَّارع، ولا يتحرَّر من الضَّوابط الشَّرعيَّة والأخلاقيَّة، ولا يدخل فيما ثبت عن الله وعن رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّما يدافع عن ذلك، ويظهر حكمة الشَّارع فيه، ويلتمس العلل والمقاصد والبراهين والمسوغات لذلك في الحدود المشْروعة بمنهج نقدي مؤصَّل، ينفي ما علق بالفِكْر الإسلامي من مغالاة المغالين وتفريط المفرِّطين.
لا ينطوي التَّعريف على منْع البحث في المعارف والعلوم التي تقوم عليها حياة الإنسان على الاكتشاف والابتكار وإعمال العقل فيما خلق له، وهذا ما حقَّقه الفكر الإسلامي، فقد أسهم بقسط وافر في تأصيل كثير من النظم والقوانين الحضارية التي أصبحت بمثابة الأسس للحضارة الحديثة. لا يخلع التعريف المقترح على الفكر الإسلامي العصمة، ولا يُوهم بأنَّ الوحي جزءٌ منه، بل ينصبُّ على بذل الجهد واستِفْراغ الطَّاقة العقليَّة والنفسيَّة فيما أفْسحه الشَّارع الحكيم - جلَّ وعلا - وقد يطابق الصَّواب نتيجة التِزامه بالقواعد المنهجيَّة واتِّصافه بالنزاهة والموضوعيَّة، وقد يحتمل الخطأ، وفقًا لما أُثر عن علماء الأمَّة ومجْتهديها من قولهم: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".